أبو عبيدة عامر بن الجراح

بسم الله الرحمن الرحيم
أبو عبيدة عامر بن الجراح

كان وضئ الوجه بهي الطلعة نحيل الجسم طويل القامة خفيف العارضين ترتاح
العين لمرآه وتأنس النفس للقياه ذلك هو عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري
القرشي المكنى بابي عبيدة . نعته عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: ثلاثة
من قريش أصبح الناس وجوها
وأحسنها أخلاقا وأثبتها حياء إن حدثوك لم يكذبوك وان حدثتهم لم يكذبوك :
أبو بكر الصديق , وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح .
كان أبو عبيدة من السابقين إلى الإسلام فقد اسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر,
وكان إسلامه على يد الصديق نفسه , فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان
ابن مظعون وبالأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه الحق فكانوا
القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم .
عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية في مكة منذ بدايتها إلى نهايتها وعانى
مع المسلمين السابقين عنفها وضراوتها وآلامها وأحزانها
ما لم يعانيه أصحاب دين على وجه الأرض فثبت للابتلاء وصدق الله ورسوله في
كل موقف
لكن محنة أبي عبيدة يوم بدر فاقت في عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال
المتخيلين .
انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى , فهابه
المشركون وحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه .
لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه فكان أبو عبيدة يتنحى
عن طريقه ويتجنب لقاءه ولج الرجل في الهجوم وأكثر أبو عبيدة من التنحي وسد
الرجل على أبي عبيدة المسالك ووقف حائلا بينه وبين قتال أعداء الله . أما قلت لك
أن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين وجاوز خيال المتخيلين ؟
ولقد يتصدع راسك إن عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبي
عبيدة. لم يقتل أبو عبيدة أباه وإنما قتل الشرك في شخص أبيه .
لم يكن ذلك عجيبا من أبي عبيدة فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه والأمانة
على امة محمد مبلغا طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله .
حدث محمد بن جعفر قال : قدم وفد من النصارى على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: يا أبا القاسم ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ليحكم بيننا في
أشياء من أموالنا اختلفنا فيها فإنكم عندنا معشر المسلمين مرضيون .
فقال رسول الله: ائتوني العشية ابعث معكم القوي ألامين
قال عمر بن الخطاب: فرحت إلى صلاة الظهر مبكرا وإني أحببت الإمارة حبي إياها
يومئذ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت فلما صلى بنا رسول الله (ص) الظهر جعل
ينظر عن يمينه وعن شماله فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يقلب بصره فينا حتى
رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال : أخرج معهم فأقض بينهم بالحق فيما اختلفوا
فيه فقلت : ذهب بها أبي عبيدة .
ولم يكن أبو عبيدة أمينا فحسب وإنما كان يجمع القوة إلى الأمانة وقد برزت هذه القوة
في أكثر من موطن :
برزت يوم بعث الرسول جماعة من أصحابه ليتلقوا عيرا لقريش وأمر عليهم أبا عبيدة
رضي الله عنهم وعنه وزودهم جرابا من تمر لم يجد لهم غيره فكان أبو عبيدة يعطي
الرجل من أصحابه كل يوم تمرة فيمصها الواحد منهم كما يمص الصبي ضرع أمه
ثم يشرب عليها ماء فكانت تكفيه حتى يومه إلى الليل .
وفي يوم أحد حين هزم المسلمون وطفق صائح المشركين ينادي دلوني على محمد
...... دلوني على محمد ....... كان أبو عبيدة أحد النفر العشرة الذين أحاطوا بالرسول
عليه الصلاة والسلام ليدفعوا عنه بصدورهم رماح المشركين
فلما انتهت المعركة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كسرت رباعيته وشج جبينه
وغارت في وجنته حلقتان من حلق درعه فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما من وجنته
فقال له أبو عبيدة : أقسم عليك أن تترك ذلك لي فتركه فخشي أبو عبيدة إن اقتلعهما
بيده أن يؤلم رسول الله فعض أولهما بثنيته (أسنان مقدم الفم ) عضا قويا محكما
فاستخرجها ووقعت ثنيته ثم عض على الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت ثنيته الثانية
قال أبو بكر: فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما (من انكسرت ثنيتاه )
لقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله صلوات الله عليه المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن
وافاه اليقين فكلما كان يوم السقيفة ( المراد به يوم بيعة أبي بكر رضي الله عنه
فقد تمت بيعته في سقيفة بني ساعد ) قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة : ابسط
يدك أبايعك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن لكل أمة أمينا
وأنت أمين هذه الأمة فقال أبو عبيدة : ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يؤمنا في الصلاة فأمنا حتى مات ثم بويع بعد ذلك
لأبي بكر الصديق فكان أبو عبيدة خير نصيح له في الحق وأكرم معوان له على الخير
ثم عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلى الفاروق فدان له أبو عبيدة بالطاعة ولم يعصه
في أمر إلا مرة واحدة .
فهل تدري ما الأمر الذي عصى فيه أبو عبيدة أمير المسلمين ؟
لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة بن الجراح في بلاد الشام يقود جيوش المسلمين
من نصر إلى نصر حتى فتح الله على يديه الديار الشامية كلها فبلغ الفرات شرقا
واّسيا الصغرى شمالا .
عند ذلك دهم بلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قط فجعل يحصد الناس حصدا.
فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجه إليه رسولا إلى أبي عبيدة برسالة يقول فيها :إني بدت لي حاجة لا غني لي عنك عنها فإن أتاك كتابي ليلا فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إلي وإن أتاك نهارا فإني أعزم عليك ألا تمسي حتى تركب إلي .
فكلما أخذ أبو عبيدة كتاب الفاروق قال :
قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلى فهو يريد أن يستبقني من ليس بباق ثم كتب
إليه يقول يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم ..........
ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره ...
فإن أتاك كتابي هذا فحللني من عزمك وائذن لي بالبقاء .
فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه فقال له من عنده لشدة ما رأوه من بكائه : أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين ؟ فقال لا ولكن الموت منه قريب ولم يكذب ظن الفاروق إذ ما لبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون فلما حضرته الوفاة أوصى جنده فقال :
إني أوصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير :
أقيموا الصلاة وصوموا شهر رمضان وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصوا وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوا ولا تهلكم الدنيا فإن المرء لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون ...
والسلام عليكم ورحمة الله .
ثم التفت إلى معاذ بن جبل وقال يا معاذ صلي بالناس .
ثم ما لبث أن فاضت روحه الطاهرة فقام معاذ وقال :
أيها الناس : إنكم قد فجعتم برجل والله ما أعلم أني رأيت رجلا أبر صدرا ولا أبعد غائلة ولا أشد حبا للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه يرحمكم الله.